{يَأَيُّهَا الناس اتقوا رَبَّكُمُ} خطابٌ يعمُّ حُكمُه المكلفين عند النُّزولِ ومَن سينتظم في سلكهم بعدُ من الموجودين القاصرين عن رتبةِ التكليفِ والحادثين بعدَ ذلك إلى يومِ القيامةِ وإنْ كان خطابُ المشافهةِ مختصًّا بالفريق الأولِ على الوجه الذي مرَّ تقريرُه في مطلعِ سورةِ النساءِ. ولفظُ النَّاسِ ينتظمُ الذكورَ والإناثَ حقيقةً وأما صيغةُ جمعِ المذكورِ فواردةٌ على نهجِ التغليبِ لعدمِ تناولِها للإناثِ حقيقةً إلا عندَ الحنابلةِ. والمأمورُ به مطلقُ التَّقوى الذي هو التجنبُ عن كلِّ ما يُؤثِّمُ من فعلٍ وتركٍ، ويندرجُ فيه الإيمانُ بالله واليومِ الآخرِ حسبما وردَ به الشرعُ اندراجاً أولياً. والتعرضُ لعنوانِ الربوبيةِ المنبئةِ عن المالكيةِ والتربيةِ مع الإضافةِ إلى ضميرِ المخاطبينَ لتأييدِ الأمرِ وتأكيدِ إيجابِ الامتثالِ به ترهيباً وترغيباً. أي احذَرُوا عقوبةَ مالكِ أمورِكم ومُربِّيكم. وقولُه تعالى: {إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ} تعليلٌ لموجبِ الأمرِ بذكرِ بعضِ عقوباتِه الهائلةِ فإنَّ ملاحظةَ عِظَمِها وهولِها وفظاعةِ ما هيَ من مباديهِ ومقدماتِه من الأحوالِ والأهوالِ التي لا مَلْجأَ منها سوى التَّدرعِ بلباسِ التَّقوى مما يوجبُ مزيدَ الاعتناءِ بملابستِه وملازمتِه لا محالةَ. والزلزلةُ التحريكُ الشديدُ والإزعاجُ العنيفُ بطريقِ التكريرِ بحيث يزيلُ الأشياءَ من مقارِّها ويُخرجُها عن مراكزِها. وإضافتُها إلى الساعةِ إمَّا إضافةُ المصدرِ إلى فاعلِه، على المجازِ الحكميِّ. كأنَّها هي التي تزلزلُ الأشياءَ، أو إضافتُه إلى الظَّرفِ إمَّا بإجرائِه مُجرى المفعولِ به اتساعاً، أو بتقديرِ في كما في قولِه تعالى: {بَلْ مَكْرُ اليل والنهار} وهي الزَّلزلةُ المذكورةُ في قولِه تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} عن الحسنِ أنَّها تكونُ يومَ القيامةِ. وعن ابنِ عباسٍ رضيَ الله عنهُمَا: زلزلةُ السَّاعةِ قيامُها، وعن علقمةَ والشَّعبيِّ: أنَّها قبلَ طلوعِ الشَّمسِ من مغربِها، فإضافتُها إلى الساعةِ حينئذٍ لكونِها من أشراطِها، وفي التعبيرِ عنها بالشيءِ إيذانٌ بأنَّ العقولَ قاصِرةٌ عنْ إدراكِ كُنهِها والعبارةُ ضيقةٌ لا تحيطُ بها إلاَّ على وجهِ الإبهامِ.وقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} منتصبٌ بما بعدَهُ قُدِّمَ عليهِ اهتماماً بهِ. والضميرُ للزَّلزلةِ أي وقتَ رؤيتِكم إيَّاها ومشاهدتِكم لهولِ مطلعِها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ} أي مباشرةٍ للإرضاعِ. {عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تغفلُ وتذهلُ مع دهشةٍ عمَّا هيَ بصددِ إرضاعِه من طفلِها الذي ألقمتْهُ ثديَها. والتعبيرُ عنه بمَا دونِ مَنْ لتأكيدِ الذهولِ وكونِه بحيثُ لا يخطرُ ببالِها أنَّه ماذا لا أنها تعرف شيئيته لكن لا تدري من هو بخصوصه، وقيل: مَا مصدريةٌ أي تذهلُ عنْ إرضاعِها. والأولُ أدلُّ على شدةِ الهولِ وكمالِ الانزعاجِ. وقرئ: {تُذهَل} من الإذهالِ مبنياً للمفعولِ أو مبنياً للفاعلِ مع نصبِ كلُّ، أي تُذهلها الزلزلةُ. {وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} أي تُلقي جنينَها لغيرِ تمامٍ، كما أنَّ المرضعةَ تذهلُ عن ولدِها لغيرِ فطامٍ.وهذا ظاهرٌ على قولِ علقمةَ والشَّعبيِّ وأمَّا على ما رُوي عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا فقدْ قيلَ إنَّه تمثيلٌ لتهويلِ الأمرِ، وفيه أنَّ الأمرَ حينئذٍ أشدُّ من ذلكَ وأعظمُ وأهولُ ممَّا وُصفَ وأطمُّ. وقيلَ: إنَّ ذلكَ يكونُ عند النفخةِ الثَّانيةِ، فإنَّهم يقومونَ على ما صُعقوا في النفخةِ الأولى فتقومُ المرضعةُ على إرضاعِها والحاملُ على حملِها. ولا ريبَ في أنَّ قيامَ الناسِ من قبورِهم بعد النَّفخةِ الثَّانيةِ لا قبلَها حتى يتصورَ ما ذُكر. {وَتَرَى الناس} بفتحِ التَّاءِ والرَّاءِ على خطابِ كلِّ واحدٍ من المُخاطبينَ برؤيةِ الزَّلزلةِ. والاختلافُ بالجمعيةِ والإفرادِ لِمَا أنَّ المرئيَّ في الأولِ هي الزلزلةُ التي يشاهدُهَا الجميعُ وفي الثَّاني حالُ مَن عَدَا المخاطبِ منهم فلا بدَّ من إفرادِ المخاطبِ على وجهٍ يعمُّ كلَّ واحدٍ منهم لكلِّ من غيرِ اعتبارِ اتِّصافِه بتلكَ الحالةِ فإنَّ المرادَ بيانُ تأثيرِ الزَّلزلةِ في المرئيِّ لا في الرَّائي باختلافِ مشاعرِه لأنَّ مدارَه حيثيةُ رؤيتِه للزلزلةِ لا لغيرِها كأنَّه قيلَ: ويصيرُ النَّاسُ سُكارى الخ، وإنما أوترَ عليهِ ما في التنزيلِ للإيذانِ بكمالِ ظهورِ تلك الحالةِ فيهم وبلوغِها من الجلاءِ إلى حدَ لا يكادُ يخفى على أحدٍ أي يراهم كلُّ أحدٍ {سكارى} أي كأنَّهم سُكارى {وَمَا هُم بسكارى} حقيقةً {ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} فيُرهقهم هولُه ويطيرُ عقولَهم ويَسلُبُ تمييزَهُم فهو الذي جعلَهم كما وُصفوا وقرئ: {تُرَى} بضمِّ التَّاءِ وفتحِ الرَّاءِ مُسنداً إلى المخاطبِ منْ رأيتكَ قائماً أو رُؤيتكَ قائماً والنَّاسُ منصوبٌ أي تظنُّهم سُكارى. وقرئ برفعِ النَّاسَ على إسنادِ الفعلِ المجهولِ إليهِ، والتأنيثُ على تأويلِ الجماعةِ وقرئ تُرِي بضمِّ التَّاءِ وكسرِ الرَّاءِ أي تُرِي الزلزلةُ الخلقَ جميعَ الناسِ سُكارى وقرئ: {سَكْرى} و{سَكْرى} كعطْشى وجَوْعى إجراءً للسُّكرِ مجرَى العللِ.